منوعات

اقتصاد الصحة والأمن الاجتماعي: لمن الأولوية؟

إنّ جائحة كـوفيد-19، بحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2020 الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، “هي أحدث أزمة تواجه العالم، ولكن إن لم يرفع البشر قبضتهم عن الطبيعة، فلن تكون الأزمة الأخيرة”. وبحسب تقرير التنمية المستدامة 2020 الأخير، الصادر عن هيئات الأمم المتحدة العاملة في المنطقة العربية، وعلى رأسها اللجنة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (الإسكوا)، فإنّ الوباء سيقلّص إمكانية تحقيق الأهداف الخاصة بالتنمية المستدامة؛ مثل القضاء على الفقر والجوع، وضمان الصحة والرفاه، وتوفير العمل اللائق والنمو الاقتصادي، وخاصة في الدول العربية.

يأتي ترتيب لبنان وفق منظمة الصحة العالمية الثامن بين الدول العربية لناحية التغطية الصحية الشاملة بنسبة لا تتجاوز 70%. ويشكّل تفشي فيروس كورونا ضغطاً كبيراً على القطاع الصحي المثقل بالأعباء بالفعل ويعرقل جهود لبنان في مكافحة الفقر. وهناك مخاوف من أنّ التفشي سيصيب على وجه الخصوص السكان من الفقراء واللاجئين. من هذا المنطلق، فإنّ مقاربتين تتحكمان في موضوع الإقفال العام ما بين الصحة والاقتصاد، بحيث تدعو كل نظرية تفضيل أحدها على الآخر على قاعدة الفصل بينها. فما هي حقيقة العلاقة بين الصحة والاقتصاد؟

ترابط الصحة والاقتصاد

إنّ العلاقة القائمة بين الصحة والاقتصاد علاقة تبادلية، فهما صنوان لا يمكن الفصل بينها أو تجزئتهما، حيث أنّ كل طرف بالنسبة للآخر هو وسيلة وهدف. تُعتبر الصحة إحدى المقومات الأساسية لكفاية الإنسان ومهارته وحتى قدراته الذهنية والعقلية، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على إنتاجيته فيساهم في زيادة الناتج المحلي وتكبير حجم الاقتصاد؛ بل إنّ تحسن المستوى الصحي من أهم مؤشرات التنمية البشرية كمدخل مهم للتنمية الاقتصادية. إضافة إلى ذلك، يُنظر إلى الوقاية الصحية على أنها حق لكل إنسان، ومن ثم فإنّها حاجة من حاجات الإنسان الأساسية، مما يتطلب توفير أهم المتطلبات الصحية وهي: ضمان حصول جميع المواطنين على الغذاء بكميات ونوعية مناسبة، علاج الأمراض والأوبئة والوقاية منها، توفير الأدوية والمستلزمات الطبية والعلاجات والاستشفاء، وتأمين مياه الشفة النقية.

الرعاية الصحية تؤدي إلى زيادة الدخل

بحسب البنك الدولي، إنّ القوى العاملة التي تتمتع بمستويات جيدة من التعليم والصحة والتغذية لها إسهامات في الاقتصاد أكبر من مجرد إنشاء طرق وبناء جسور جديدة. وعلى الرغم من أنّ الاستثمارات في البنية التحتية قد تشهد تحقيق عوائد أسرع، فإنّ الاستثمار في الصحة يبني قوى عاملة منتجة تنقل المكاسب عبر الأجيال.

وأظهرت دراسة وتجربة مراقبة عشوائية في جامايكا أنّ وجود أحد العاملين في المجال الصحي داخل المجتمع المحلي لتعليم الآباء والأمهات مهارات رعاية الأطفال يمكن أن يزيد الدخل بنسبة 25% بعد عقدين من الزمن؛ وكذلك الزيادات الطفيفة في وزن المواليد، التي تُعد مؤشرًا رئيسيًا على صحة الأجنّة، تؤدي إلى زيادة المكاسب على مدى الحياة؛ في حين أن تقليل التدخين بما يعادل نحو خمس سنوات من التدخين يزيد الدخل بنسبة  7%.

البنك الدولي وشبكات الامان الاجتماعي

لبنان المثقل بالأزمة المالية والاقتصادية التي أنهكت معظم الشعب اللبناني، وفي استجابة سريعة لتفشي فيروس كورونا، وافق البنك الدولي في 12 آذار 2020 على إعادة تخصيص 40 مليون دولار ضمن مشروع تعزيز النظام الصحي في لبنان الجاري تنفيذه (120 مليون دولار) لتعزيز قدرة وزارة الصحة العامة على التصدي للأزمة عبر تجهيز المستشفيات الحكومية وزيادة قدرتها على اختبار وعلاج الحالات المشتبه في إصابتها. وقد تمت المباشرة بعمليات شراء سريعة للمعدات والمستلزمات الطبية التي تشتد الحاجة إليها مع إتمام توقيع عقود مع وكالتين تابعتين للأمم المتحدة. الجدير بالذكر أنّ مشروع تعزيز النظام الصحي في لبنان يُموّل عبر مساهمة قيمتها 95.8 مليون دولار من البنك الدولي للإنشاء والتعمير ومنحة بقيمة 24.2 مليون دولار من البرنامج العالمي لتسهيلات التمويل المُيسَّر (GCFF).

ونتيجة لفشل إجراءات الدعم في التخفيف من حدة الأزمة المعيشية والاجتماعية، والتي ساهمت في استنزاف احتياطي مصرف لبنان من الدولارات، ومن أجل تفادي زيادة حدة الفقر والتي وصلت نسبة الفقر بحسب البنك الدولي إلى 45% والفقر المدقع إلى 22%، وافق مجلس المديرين التنفيذيين لمجموعة البنك الدولي في 12 كانون الثاني 2021، على مشروع جديد بقيمة 246 مليون دولار أميركي لتقديم تحويلات نقدية طارئة وتيسير الحصول على الخدمات الاجتماعية لحوالي 786,000 لبناني فقير يرزح تحت وطأة ضغوط الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان وجائحة فيروس كورونا (كوفيد-19).

وسيساند المشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الإجتماعي للإستجابة لجائحة كوفيد-19 والأزمة الاقتصادية في لبنان، تطوير نظام وطني شامل لشبكات الأمان الاجتماعي لتحسين القدرة على مواجهة الصدمات الحالية والتي قد تطرأ في المستقبل.

وسيُقدِّم المشروع تحويلات نقدية إلى 147 ألف أسرة لبنانية ترزح تحت خط الفقر المدقع (ما يقارب الـ 786 ألف فرد) لمدة عام واحد. وستتلقَّى الأسر المؤهلة مساعدةَ شهرية قدرها 100 ألف ليرة لبنانية للفرد الواحد، بالإضافة إلى مبلغ ثابت قدره 200 ألف ليرة للأسرة الواحدة. وسيتم تحويل قيمة المساعدة النقدية للأسرة الواحدة إلى بطاقة مسبقة الدفع يصدرها مُقدِّم خدمات مالية، وتوزَّع على الأسر المستفيدة التي يمكنها الحصول على المبلغ نقداً عبر ماكينات الصرف الآلي أو استخدامها إلكترونياً لسداد ثمن مشترياتها في شبكة من متاجر المواد الغذائية.

علاوةً على ذلك، سيتلقَّى 87 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين 13 و18 عاماً تحويلات إضافية لتغطية النفقات المباشرة للتعليم، ومنها رسوم التسجيل في المدرسة، ورسوم مجالس الأهل، وتكاليف الكتب المدرسية، ومصاريف الانتقال والزي المدرسي، ومعدات الحاسوب و/أو التفقات المرتبطة بشبكة الإنترنت لتسهيل التعلم عن بُعد. وستُدفع الرسوم المدرسية بشكل مباشر إلى المدارس المعنية.

إذا كان الهدف الرئيسي للاقتصاد هو تحسين شامل لمستوى المعيشة، وتأمين الرفاه لجميع المواطنين، وتوزيع المنافع الاقتصادية بشكل عادل، وتحقيق العدالة الاجتماعية؛ لذلك فإنّ الصحة هي أهم مؤشر من مؤشرات الرفاه الاقتصادية والعيش بسلام وأمان. وبناءً عليه، يصبح الحفاظ على صحة المواطنين من أولى اولويات السلطات اللبنانية، ومن واجباتها الأساسية توفير اللقاحات وبالكميات المطلوبة وتوفير كل متطلبات العلاج من هذا الوباء، وبذلك تُفضّل الصحة على الاقتصاد في هذه المرحلة ويأتي الإقفال العام وإجراءات الحجر في هذا الإطار.

      د.أيمن عمر

 

أيمن عمر

كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية محاضر في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية له العديد من الأبحاث والمؤلفا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى